أقلام عربية

(بئر ريان)

 

قصة موجعة..
ربما يسجلها التاريخ إسما لمكان سجل مأساة..
مليئة بالتفاصيل التي تجعل خلايا المتلقي ترتجف استثارة وأسى وتنتظر خوفا و ترقبا.
أربعة أعوام عمر ذاك الصغير الذي كان مغمورا ربما أكثر من عمق بئره الذي وقع فيه، و أضحى بين ليلة وضحاها أشهر طفل في العالم، تلك الشهرة التي لم تنتج عن تسجيلات غارقة في السطحية و اغتيال البراءة كغيره من الأطفال النجوم من مشاهير “مذابح التنازل” كما أسميها، التنازل عن الأخلاق والعرف والقيمة حيث تذبح كل هذه المعايير تحت قدمي الحرية الممجوجة والآبقة من كل عقال مع التردي الغارق في السخف و التنازلات.
كان يلهو بريئا في قرية لم يسمع عنها أحد خارج القطر قبل يوم الثلاثاء، ومن أجل الحصول على مقوم الحياة وشرطها الرئيس – الماء – حفر والد ريان بئرا ارتوازيا بعمق 32 مترا و ماكان يدري أنه جد في حفر لحد لقطعة من قلبه تسير بقدمين على الأرض، جرى ريان وجرى في شمس القائلة أو بعدها بقليل ومالبث أن شعر بكيانه الصغير طائرا من حيث هو منزلق، دقائق معدودة ربما فصلت ريان مابين وجوده فوق الأرض وتحتها، هوى الجسد الصغير في حفرة عميقة، يا للسنوات التي مرت عليه وهو يهوى للعمق مابين هلع وجزع ورضوض وجروح وكسور حتى استقر بعد لأي في قاع سحيق، وتعود قصة يوسف عليه السلام لتطل بخباياها بعد آلاف السنين، ترى أي خوف يا ريان احتواك وعصرك بمارده في غياهب الجب المخيف المظلم!!
وأي جوع عاث في جوفك فسادا قبل أن تستسلم خلاياك لفقر الطعام!!
وأي جفاف غلف لسانك وحلقك وجوفك دون قطرة ماء مروية!
َأي برد عصف بقلبك طوال السنوات المرتدية ثوب ساعات وأيام قبل أن تنسحب روحك مغادرة قدميك الصغيرتين ثم ودعت باقي أجزاء جسدك شبرا شبرا قبل أن تسافر عن كامل جسدك ليتحول الطفل ريان أورام إلى المغفور له ريان.
يا فلذة كبد أمك كيف تحملت هذه الأيام قبل أن ترتاح في نومة تسوقك لحياة البرزج، كل هذا التراخي و الإنهاء لحياة قصيرة، والعالم خارجا ينقسم بين متعاطفين يتصايحون خوفا عليه ودعاء له، وفرق إنقاذ تبدل خطة بأخرى لتصل إليه، و استنفار داخل البلاد المغربية وترقب ممزوج بأسى في باقي الكرة الأرضية لذاك العصفور الذي سجن في بئر سحيق!
هل وصل ريان مايكفيه  من غذاء وماء الذي كان لربما سيقويه للبقاء حيا لعدة أيام أخر؟!
هل تأخرت فرق الإنقاذ والحماية المدنية الحكومية في بدء فعاليات الإنقاذ حين توافدت صباح الأربعاء والطفل ممدد في قعر الأنبوب الترابي منذ مايزيد عن خمسة عشر ساعة؟!
هل يقع على عاتق الأب المنكوب شيئا من المسؤولية كونه حفر البئر ولم يغطها بتدبير احترازي بدائي!؟
هل تخلو صحيفة الوزارات المعنية بالماء والكهرباء في المغرب الشقيق من وزر ذبح هذا الطفل الذي أضطر أباه لحفر بئر لترقيع تقصير المسؤول هناك عن وضع خطط تنموية لمد الماء والكهرباء بشكل مقنن لتلك القرى والمدن المنسية بدلا من أن يقوم المدنيون بذلك فيضطر أب لحفر بئر بدائي ويفتح البئر فاه فيلتقم جسدا ضعيفا ليأخذه قربانا عن تقصير الإنسان وعجزه.
اشتهر ريان وطارت صورته في الآفاق، وما بين ضحكة تعانق الدنيا تفاءلا في صورته القديمة وهو مغمور، وصمته الموجع مع عينين مغلقتين وجسد خائر في مخدع مطمور وهو أشهر طفل على ظهر البسيطة ، هوة عميقة كهوته التي ابنلعته.
آهة تملأ صدري لا لموته ورحيله فحسب بل لتلك الشرنقة التي غلفته خلال أربعة أيام، شرنقة نسيجها الرعب وبطانتها الظلام، ودفئها البرد، ومحيطها الجوع ومدارها العطش، قبر احتوى ريان لا مساء البارحة بل منذ اللحظة الأولى التي فقد فيها الأمن وصاحب فيها الوحدة وهو في باطن الأرض ميتا و قلبه لازال ينبض.
حدث جلل ربما تكرر في بقاع كثيرة من الأرض بصور شتى، والإنسان فخور بعبور المجرات وهو عاجز عن إخراج صغير من نفق داخل الأرض، إنه لفرح فخور.
سكن الله قلوب ذويه، ورحمك الله أي بني، وجعني حتى القاع هلعك ووحدتك حيا أكثر من توقف قلبك بعدها بليال.

د. فاطمة عاشور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى