“بعض الحروف غربان”
طالعنا بالأمس مقالا لسيدة كاتبة بعنوان :”إنهم يتكاثرون فلنتخلص منهم”..
وفي الواقع كثر اللغط و الجدال حول هذا المقال فالحالة العامة من رد الفعل يسودها الاستنكار والرفض لمحتواه كما فهمه الجميع وقلة قليلة من المتثاقفين يصفقون ويدفعون عن المقال تهمة ازدراء فئة كبار السن و المتقاعدين.
وفي الحقيقة هي المرة الأولى التي أقرأ فيها للسيدة الكاتبة فأنا لا أعرفها فلها مني كل ود واحترام فأنا هنا أحاكم مقالها وأسلوبه بنظرة موضوعية و بنقد محايد.
يلاحظ على المقال مايلي :
أولا:.موضوع المقال يتناول الحديث حول شريحة من شرائح المجتمع و يفترض أنها شريحة تمثل قطاعا بشريا ولا بد أن يتم الحديث عنه بصورة لائقة ورصينة ولايجوز تحت أي حجة أدبية و ادعاء للحرفية أن يستخدم أسلوب فيه تعالي وسوء لباقة و استخفاف ففي طيات الطرح يشعر القارئ أن الكاتب يتحدث عن سلالة من بكتيريا تتكاثر وتتوالد وهذا لايليق تحت أي اسم لبوابة أدبية فمن المعروف لأهل الإبداع المقالي الحقيقيين أن يتناسق الأسلوب مع فحوى النص حتى لا يظهر المعنى مغايرا أو مختلا.
ثانيا : وصف المقال فئة كبار العمر و المتقاعدين بصورة لاتليق بعجائز الخيل ووصفهم بأنهم عالة اقتصاديا و اجتماعيا ونست الكاتبة أنهم من الجنسين شريحة قد أبلت بلاء حسنا و بادرت سلفا بتقديم العمر جهدا وعطاء و تضحية في مجالات العمل المختلفة وآن لهم أن يسلموا دفة الجهاد للشباب و هذا معروف في العالم كله والنظام الشائع في أي دولة أنها ملزمة أن تعول هؤلاء الذين عملوا بجد حتى هرموا وتدفع لهم تقاعدات وخدمات مما اقتطع من دخلهم على مدى العمر، فالتقاعد ليس صدقة من لدن فكر الكتاب الموقرين ككاتبتنا هنا بل هو من حق المتقاعد بيانا عيانا، ولوكان الأمر كذلك بأن كبار السن عالة لأعدمت أوروبا وهي القارة العجوز وثلاث أرباع شعبها فوق الستين – لأعدمت شعوبها الذين يتكاثرون بشكل سرطاني وغير منتج وفقا للغة المقال.
ثالثا: استخدام أساليب السخرية و الكتابة التهكمية يقتضي معايير وشروط لم تتوفر في طرح المقال، فالمقال جاء متهالكا مثيرا للملل بأسلوب جاد وشرس وناقم و جاف لا غيمة في سمائه تنبئ عن قطرة تهكم مدروسة أو وابل سخرية موظفة بشكل حرفي ممنهج، بل جاء ممجوجا منفرا وإن كان سخرية يراد بها حق بعد ذلك فبعض النوايا تدفنها الظواهر وتناقضها، فظهر أسلوب الكاتبة في آخر المقال كصقيع ليلة عاصفة عاتية لاروح فيها لهذا لم يصدقها أحد في طرح الحلول الجدية الطيبة و المساندة للفئة المذكورة حيث أن توظيفها للأسلوب افتقر للتوفيق وجانب الصواب وثبت جانب الفكاهة كأنه جسد الحقيقة، و جاءت حلولها العبقرية بعد ذلك بصورة باهتة وغير ملفتة، و لم ينل هذا الجزء المنقذ رضا القراء ولا أفاد بالنية السليمة لمن طرح المقال، بل إنه حتى لم يقدم جديدا أو حلولا غير مسبوقة تستدعي كل هذا الجهد في استجلاب القارئ بخدعة الفكاهة وأراجوز السخرية السالفة.
والحقيقة أن المقال برمته ظهر بصورة كلية غير لائقة فهو يلامس حساسية جميع أفراد المجتمع، و لم توفق فيه الكاتبة و يجدر بالكاتب أن يعلم متى يكتب بلغة رصينة ومتى يتشدق ليتباهى بعضلات حرفيته.
وحتى الألفاظ و توظيفها يفرق مابين موضوع وآخر خاصة حين الحديث عن الإنسان المكرم من عند الله و أي إنسان ، من كرمه الله و أوصى بمراعاة كبره وعجزه.
والغريب أن الكاتبة الموقرة تحدثت عنهم حتى في حلولها الجادة بعد انتهاء فصل الكوميديا الذي تحول إلى تراجيديا.. تحدثت بلهجة من أتت من مجرة الشباب التي لا تعرف الهرم ولذا تسخر ممن يهرمون و يكبرون.
وبعد.. نقول ماهكذا تساق الإبل، فإن الكتابة دار عز من سقف وحيطان، وآداب يعرفها من يقود سفن الإبداع من الربان، وليس كل حروف تراصت جنبا إلى جنب صارت مقالا..
فلنرحم الأدب العربي و فن الكتابة من ترهاتنا أيها الكتاب ولنراعي إنسانيتنا قبل أن نروم شهرة ورواجا.
د. فاطمة عاشور