مقالات

الوطن في عيون المؤرخين

بقلم د/نوف بنت بندر البنيان
أستاذ التاريخ المشارك كلية الآداب والفنون – جامعة حائل.

عِندَما يكون الحديث عن الأوطانِ يَصبحُ المؤرخ شاعراً، يتغنى بوطنهِ إما حنينًا أو اعتزازًا وفخرًا، فكلمةُ “الوطن” كلمة عزيزة على النفسِ، رفيعةُ القيمةِ، غنيةُ المعنى، لها في سويداءِ القلبِ مساحةً تَتسعُ لكثرةِ معانيها.
ويظهرُ البُعد الوطني عند المؤرخين في أشكالٍ مختلفةٍ متنوعةٍ، فهناكَ وشائج وثيقة تربط المرء بوطنهِ، متجذر بجذور أرضه، فهو قد أمضى فيهِ ريعانَ شبابهِ، وَنَهلَ من مائِه، ومسّ ترابهِ، وعاين أمطارهِ، وأشجارهِ. وهذا الحبّ للأوطانِ له معيار رئيس في قيامِ الحضارة الإنسانيّةِ، فحُبّ الأوطان يؤدي إلى إعمارِ البلدانِ، وتنبع هذهِ الأُلفة الفطريّة مع الوطن من التجاربِ الحسّيّةِ، وجملة الذكريات التي عاشها الإنسان في وطنهِ، كما ترسي هذهِ الأُلفة أسس الهويّة الجمعيّةِ الإيجابيّة بينَ البشرِ، وَإنّ اختلفت أوطانهم الأصلية، فالأرضُ وطنٌ لجميعِ البشرِ، ومكان استقرار الإنسان واقامتهِ، فمتى تكونُ تلكَ البقعةِ من الأرضِ وطنا؟ حتماً عندما يشعرُ الإنسان بالاستقرارِ النفسي، الذي يدفعهُ للعملِ والسعي والتطوير في سبيلِ تحقيق الحياةَ الكريمةِ. وسوى ذلكَ محال أن يدعى وطنًا، فما الإنسان بدون “وطن”؟ وهل لغير (الوطن) أدباً يُسطر على مرِّ التاريخ؟ .
قالَ الجوهري في الصحاحِ تَعودُ كلمة الحبّ لحبة القلبِ، وحبة القلبِ سويداءه، فحُبّ الإنسان لوطنهِ حُبُّ متجذر في سويداءِ القلبِ، وَهوَ فطرة في النفسِ البشريةِ. فالإنسانُ مجبولٌ على حُبِّ وطنهِ وَالتضحيةِ من أجلهِ.
وَقد سطرَ المؤرخون المتقدمون والمتأخرون في هذا الموضوع العديد من الكتاباتِ، التي ورد فيها “الوطن “بألفاظ عدة، الأرضُ، والبلدُ، والديارُ، والربوعُ. وجميعها اتفقتْ على أمرٍ واحد هوَ الحُبُّ والولاءُ والوفاءُ.
والمتصفحُ للمصادرِ التاريخيةِ يَلحظُ أنه في عهدِ الحضاراتِ القديمةِ لَم يكنْ هناكَ مفهومٌ شائعٌ للفظِ الوطن. بل كانَ يقتصرُ على الأمكنةِ التي يعيشون فيها، وَحتى زمن الجاهليّة لَمْ تذكرْ في الرواياتِ التاريخيةِ؛ إنّما تطور ذلكَ اللفظ عَبْر العصور. وَكانت بدايةُ ظهور لفظ “الوطن” في العصرِ العباسيّ، على لسانِ ابن الرّومي الذي قالَ عنه: أنّه بلد المنشأ، وَبلد الصّبا والشّبيبة: “وطن صحبت به الشّبيبة والصّبا ولبست ثوب العمر وهو جديد”. وَجاءَ مفهومُ الوطن في المصادرِ التاريخيةِ بعِدّةِ صورٍ منها:
الجمالُ وَالكمالُ: فقد أثَر عن عائشةَ رضي الله عنها قولَها عندَ هجرتها من مكةَ إلى المدينةَ:” لولا الهجرة لسكنتُ مكةَ فإني لَمْ أرَ السماءَ بمكانٍ أقربُ إلى الأرضِ منها بمكةَ، ولَمْ يطمئنْ قلبي ببلدٍ قطّ ما اطمأن بمكة، وَلَمْ أرَ القمرَ بمكانٍ أحسن منه بمكةَ”، كما نقلَ لنا ياقوت الحموي في معجمِ البلدانِ قولَ إعرابي يتحنن إلى وطنه بقوله:
أنظر حنينًا إلى أرضِ كأنَّ ترابها إذا أمطرت عود ومسك وعنبر
أحن إلى أرضِ الحجاز وحاجتي خيامٌ بنجد دونها الطَّرفُ يَقصُر
والوطن هو: الفخرُ والاعتزازُ: إذْ جاءَ الحديث عن الوطنِ بروحِ الافتخارِ والعزةِ، فقد ذكرَ لنا القلقشندي صاحب صبح الأعشى مؤرخ الديار المصرية مفتخرًا بوطنه:” وكانت الديار المصرية والمملكة اليوسفية، أعزَّ الله تعالى حماها وضاعفَ علاها قد تعلقت من الثريا بأقراطِها، ورجحت سائرُ الأقاليمِ بقيراطِها، بشرَ بفتحِها الصادقُ الأمين فكانَتْ أعظمُ بُشرى”.
والوطن هو الحب والانتماء: فقد أوجزَ لنا ابن بطوطة مفهوم الوطن عندما قالَ في بدايةِ رحلته التاريخية عند خروجه من بلده: ” وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور “. وَذكرَ المقَّريّ التلمساني مؤرخ الأندلس، صاحبُ نفح الطيبِ عندما عصفَتْ الرياح بلاده، بلادُ الأندلس وَانتقلَ مضطرًا إلى بلادِ المغرب، قوله:” إنّه لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أو ردّ، ولا محيد عما شاءه سواء كره ذلكَ المرء أو ردّ، برحلتي من بلادي، ونقلتي عن محل طارفي وتلادي، فَمفهومُ الوطنِ هنا يضيقُ وَيَتسعُ حسبَ الموضع الذي ذكر فيه لفظًا ومعنًى. فَالأرضُ وطنٌ، وَالديارُ وطنٌ، والبلادُ وطنٌ، والربوعُ وطنٌ، جميعها وطنا يحددها شعورٌ واحد هو الانتماءُ والحبّ.
فَالوطنُ هو المكان الذي يَجتمعُ فيه مجموعة من البشرِ، مهما اختلفتْ مساقط رأسهم تجمعهم المشاعر الوجدانيةِ الإيجابيةِ التي تدفعهم وتحفزهم، إلى سلوكيات موحدة تجاه وطنهم، وتدفعهم لنصرته والدفاع عنه بكلّ ما يملكون وبدون تردد.
فَالانتماءُ والوحدةُ في ظلِّ وطن واحد يحكمه وليّ أمرٍ منيع، وحكومة لها السيادة والوصاية على حدود أرضها، من شأنه أنَّ يحفظَ الولاء للدولةِ ويسعى إلى نبذِ الفتنِ. لأنَّ الوطنَ هو القالب الذي تَنصهرُ فيه جميع الاختلافات والخلافات، والعنصرية المقيتة، وَتحلُ مَحلها المحبةُ والمودةُ والتسامحُ والتعايشُ والتآخي والتعاونُ.
فَلوطننا حقٌّ علينا كما هو حق النبض للفؤاد، مستمد من نقاء الإسلام، والسلام، ممتزجًا بين لوني الأخضر والأبيض ليرسم صورة غناء تخفق في كلّ روحٍ حرّة، تأبى إلّا أنّ تكونُ وفيةً لهذا البلد المعطاء، لا تهادن في الباطل، عربية متجذرة العروبة، مهد القيم والأصالة، ثابتة على الإيمان والشهادة، مستمسكًة بهدي النبي محمد ()، ومثبتًا ذلك في راية خفاقة رسم فيها سيف الحق والأصالة، وقد عاشَ من كانَ للأوطانِ مفتديًا، وَسلَّم الله من بالروحِ فدّاها. وكل عام ووطننا بخير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى