الأخبار المحلية

سياحة البقاء على قيد الحياة .. هروب من ضغوط التكنولوجيا

وسط غابة كثيفة في جزيرة صحراوية قبالة سواحل بنما، ضلت تيس دافيسون، إخصائية العلاج الطبيعي من لندن. فقد تركت زملاءها في المخيم للقيام برحلة إلى شاطئ قريب، ولكن ما إن دخلت كومة متشابكة من كروم العنب والنباتات، سرعان ما أخذت منعطفا خاطئا. وكان هذا، بطريقة غير مباشرة، هو بالضبط ما اشتركت من أجله.
بثمن تكلفة الإقامة في منتجع فاخر، سافرت دافيسون (55 عاما) جوا مسافة أكثر من خمسة آلاف ميل لتحاول البقاء على قيد الحياة دون مساعدة من الحضارة. فقد تعلمت البحث عن النباتات والحيوانات، وأساسيات صيد الأسماك بالرمح، والملاحة وإشارات الإنقاذ، وكيفية إشعال النار باستخدام عودين فقط. وعندما وجدت أخيرا طريقها للعودة إلى المخيم في ذلك اليوم بعد قضاء بضع ساعات في الغابة، تذكرت أنها قطعت ثمرة جوز الهند واستلقت على الشاطئ وهي تفكر قائلة: “هذا يقدر بمليون دولار”.
لم تعد المقامرة على الموت في الهواء الطلق حكرا على المغامرين في برامج التلفاز مثل بير جريلز وراي ميرز وإد ستافورد، إذ لم تعد مهارات البقاء تقتصر على مجموعة من غريبي الأطوار المولعين بارتداء ملابس الفوتيك التي يرتديها العسكر ونظريات المؤامرة. من مرتفعات اسكتلندا إلى الجزر الصحراوية في جنوب شرق آسيا، يقدم عدد متزايد من منظمي الرحلات السياحية المتخصصين الفرصة لتجربة ما سيكون عليه البقاء على قيد الحياة في البرية، وفي الأغلب ما يتقاضون أسعارا باهظة لليلة الواحدة مقابل هذا الامتياز.
توم ويليامز، الذي يدير شركة ديزرت آيلاند سيرفايفال، وهي شركة مختصة بالبقاء على قيد الحياة في الأدغال والتي نظمت رحلة دافيسون إلى أرخبيل جزيرة اللؤلؤ قبالة ساحل بنما على المحيط الهادئ، يقول إن أغلبية الضيوف الذين يذهبون في الـ20 رحلة التي يديرها كل عام لم يسبق لهم التخييم من قبل.
خلال الأيام الخمسة الأولى في الجزيرة، يتم إطعام الضيوف وتزويدهم بالأراجيح الشبكية (المخصصة للاستلقاء) بينما يتم تدريبهم على الأدغال، ثم يتم إرسالهم لإعالة أنفسهم مدة ثلاث ليال ومعهم ما لا يزيد على قسط من الماء يكفي ليوم واحد، ومنجل، وسكين يد، وهاتف يعمل بالأقمار الاصطناعية وصندوق الأدوات الطبية. وبحلول الوقت الذي يسجلون فيه وصولهم إلى منتجع على شاطئ البحر في الليلة الأخيرة، يتراءى لهم المكان وكأنه “فندق 10 نجوم”، كما يقول ويليامز.
كان الدافع وراء زيادة الاهتمام هو البرامج التلفزيونية لألعاب الواقع التي تضع مهارات البقاء على قيد الحياة للمتسابقين على المحك، مثل برنامج سيرفايفور وبرنامج نيكيد آند أفريد وألون “الذي تنتهي النسخة البريطانية منه على القناة الرابعة في عطلة نهاية هذا الأسبوع، بمشاركة ويليامز وصولا إلى أربعة متسابقين نهائيين يتنافسون على جائزة قدرها 100 ألف جنيه استرليني”. لكن ويليامز يقول إن أكبر عامل جذب للضيوف هو فرصة الانقطاع عن رتابة الحياة المكتبية لأصحاب الياقات البيضاء حيث يكون الموظفون متسمرين بشاشات الحواسيب.
ويوافق وينجي كاي، الأستاذ المشارك في تخصص السياحة في جامعة جرينتش، على أن النمو في سياحة البقاء على قيد الحياة يغذيه العمال “المجهدون من ضغوط التكنولوجيا” والذين يرغبون في الهروب من “الاتصال المستمر في الحياة اليومية”.
ويقول كاي: “من المفارقات أن الاستراحات الخالية من التكنولوجيا الرقمية في الأغلب ما تجد طريقها إلى وسائل التواصل الاجتماعي بعد ذلك. هذه المنشورات حول التجارب التي تغير الحياة هي أقوى أداة ترويجية تمتلكها الشركات”.
في إحدى الجزر الصحراوية قبالة سواحل الفلبين التي تستخدمها شركة ديزرت آيلاند سيرفايفال، لا تزال هناك إشارة هاتفية، لكن المدربين يقومون بتغيير رموز الدخول السرية لهواتف الضيوف طوال مدة إقامتهم التي تمتد لعشرة أيام. ويقول ويليامز: “إننا نشهد ارتفاعا كبيرا في الاكتئاب والقلق في مجتمعاتنا، ويعد الترابط المفرط هو المحفز لذلك. لذا فإن مواجهة ذلك بتجارب مثل تجاربنا يعد دافعا كبيرا للتحفيز”.
كان بائع البرمجيات في السابق قد أصيب بخيبة أمل كبيرة في حياته المهنية لدرجة أنه فكر في صدم سيارته على الطريق السريع لتأمين إجازة لبضعة أسابيع من العمل بداعي الإصابة. لكن عوضا عن ذلك، وبإلهام من محادثة جرت بينه وبين صديقه، قرر التدرب على رحلة استكشافية إلى القطب الشمالي في 2010.
وبعد فترات من العمل على يخت فاخر، وإدارة رحلات بقوارب الكاياك في باتاغونيا وركوب الدراجات الهوائية على جبال الأنديز، قام بتنظيم أول رحلة لشركة ديزرت آيلاند سيرفايفال في 2016. وقد تضاعفت تكلفة العطلات منذ ذلك الحين إلى نحو ثلاثة آلاف جنيه استرليني، غير شاملة تذاكر الرحلات الجوية، وتخطط الشركة لزيادة عدد الرحلات التي تسيرها إلى نحو 40 رحلة سنويا. ويقوم ويليامز حاليا بالبحث عن جزر جديدة غير مأهولة قبالة سواحل إندونيسيا.
منذ البداية، قدمت شركة ديزرت آيلاند سيرفايفال نهجا “بدائيا خالصا” – حيث لا يتم فيه إعطاء المشاركين حصصا غذائية أو أعواد الثقاب أو أحجار الصوان أو أدوات لإشعال النار، ويجب عليهم بدلا من ذلك البحث عن الطعام والصيد واستخدام أدوات الحفر البدائية والحفر اليدوي لإشعال النار. وما زال أويسن أوليري، مدير صندوق يبلغ من العمر 34 عاما ويعمل في حي لندن المالي، يتذكر بوضوح شعوره بالغبطة بعد أن تمكن من إشعال النار أول مرة بعد محاولته لمدة يومين أثناء رحلة إلى أرخبيل جزيرة اللؤلؤ العام الماضي. وقال: “عندما تحقق ذلك، وهو شيء صغير جدا، فإنه يثير ذاك الشعور البدائي في عقلك: أوه، هذه هي الطريقة التي اعتاد أسلافنا على العيش بها، ويتملكك هذا الشعور البالغ بالامتنان لكل هذه الأمور التي تعلمتها”.
ولكن، تقوم الشركات الأخرى، بشكل متزايد، بطمس الخطوط الفاصلة بين مهارات البقاء البدائية وزخارف الرفاهية الحديثة. ففي منتجع ساني ذي الخمس نجوم في هالكيديكي في اليونان، يمكن للضيوف أخذ استراحة من كراسي التشمس الخاصة بهم (والـ35 مقهى ومطعما فيه) للتوجه إلى الغابات القريبة التي تبلغ مساحتها ألف فدان لتعلم كيفية تقطيع جذوع الأشجار بسكين وبناء المأوى كجزء من دورة أكاديمية بير جريلز للنجاة.
وإضافة إلى المواقع المختلفة في المملكة المتحدة، تستضيف الأكاديمية أيضا دورات في جنوب إفريقيا والإمارات، وقد تلقى ما مجموعه 60 ألف عميل دورات البقاء على قيد الحياة التي صممها بير جريلز منذ إطلاق الشركة في 2012. ويقول بول جاردينر، المدير الإداري للأكاديمية: “لقد كنت تعد شخصا غريب الأطوار بعض الشيء إذا كنت مهتما بالبقاء على قيد الحياة في ذلك الوقت. لكن البرامج التلفزيونية، مثل التي قدمها بير، ساعدت جميعها في تقبل هذا الأمر وجعله أكثر جدية بعض الشيء”.
شركة ريفايفل المتخصصة في إدارة معسكرات النجاة ومقرها اسكتلندا، تسمح للضيوف بتخصيص رحلاتهم والاختيار مثلا بين خيمة عادية، أو خيمة ناموسية أكثر فخامة، أو خيمة على سطح سيارة لاند روفر من طراز ديفندر ذات المواصفات المخصصة للاستكشاف. كما تشمل الخيارات تلقي الإرشادات من مدرب السباحة في المياه الجليدية أو الصقار أو صانع السكاكين، حيث يمكن أن تكلف الرحلات ما بين أربعة آلاف وتسعة آلاف جنيه استرليني للشخص الواحد.
وتعتقد إليزا براون، التي أسست شركة ريفايفل العام الماضي، أن العملاء ينجذبون إلى تجارب الحياة البرية جزئيا استجابة لعدم اليقين المتزايد في عموم العالم. حيث قالت: “هناك كثير من الأحاديث حول تغير المناخ والحروب وكل هذه العناصر، وأعتقد أنها ضربت على وتر حساس لدى الأشخاص الذين يرغبون في إنفاق أموالهم بشكل مجد أكثر”.
وتقول براون إن شركة ريفايفل تلبي لحد كبير احتياجات العاملين من ذوي الياقات البيضاء المشغولين وكبار المسؤولين التنفيذيين. وكانت رحلتان للشركة هذا العام عبارة عن خلوات للشركات تتضمن تمارين مهارات لبناء الفريق بقيادة موظفي ريفايفل، وهم أعضاء سابقون في القوات الخاصة العسكرية. وتعد دورات الشركات أيضا أكبر قسم في أكاديمية بير جريلز للنجاة، وفقا لجاردينر.
يقول أندرس أندرسون، المدرب الرئيس في شركة ذا وايلد تيلز، التي تم إطلاقها العام الماضي لتقديم رحلات البقاء على قيد الحياة في غيانا، إن جاذبية هذه التجارب تكمن في قوة الغابة التي يصغر أمامها العظماء. ويضيف “إن الطبيعة الأم تزيل هذه الطبقات حتى لا يتبقى شيء باستثناء كل ما هو موجود في أعماقنا. إذا أتيت وكنت قويا البنية جدا أو ناجحا جدا بالمال، فإن الغابة لا تهتم لأي من ذلك”.
تشمل رحلاته التي تستغرق 12 ليلة (والتي تكلف نحو ثلاثة آلاف دولار) مراحل التعريف والرحلة الاستكشافية والعزلة – حيث يترك المشاركون بمفردهم خلال المرحلة الأخيرة “للبقاء على قيد الحياة إلى أن يتم إجلاؤهم”. وقد استضاف أندرسون هذا العام نحو 50 ضيفا. ويخطط في العام المقبل لاستضافة ما لا يقل عن 150 عميلا وربما أكثر من 200 عميل. ويقول: “إنها تنمو بشكل كبير. في كل مرة يأتي إلينا المؤثرون على إنستجرام أو يوتيوب، نتلقى مزيدا من الطلبات”.
ويصف أندرسون ذهابه لجمع ضيوفه من مخيماتهم المتناثرة بعد مرحلة العزلة، بأنه وصول يجد فيه مشاهد من “العصر الحجري”. وعادة ما يكون هناك سمك يطهى على النار، وكوخ مصنوع من سعف النخيل المتشابك، ورائحة العرق والدخان تنتشر في الجو. ويقول: “إنه مشهد بدائي وأصيل للغاية”.

crossorigin="anonymous">

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى