زُجاجُ العمر
محمد الرياني
يذوبُ الألمُ في إناءِ عمركِ فأنسى المتاعب، على الطاولةِ كوبان من عصيرٍ شهي، يدورُ الكوبان مثلَ عاشقين يهويان المزاحَ والتلذذَ بربيعِ الحياة، لنا شفتان تطبقان على فمِ كلِّ كوبٍ بعنايةٍ وكأنهما تُقبِّلانه ، ولنا نفسَان طيِّبان كشذى الفلِّ يسكنان في قلبِ المشروب ، تقول لي إنَّ أرقامَ العمرِ يصنعُ منها الحبُّ أرقامًا فلكيةً تُسجَّلُ في سجلاتِ الإنجازاتِ مع الخالدين ، تُجبرني عيناها البرَّاقتان كلؤلؤتينِ مكنونتينِ في محارةٍ صعبةِ المنالِ لم يُكتشَفْ سحرهما ، وَحدي – أنا- الذي جلبتُ من أصالةِ العمرِ قيمةَ الحُبِّ الجديد ، كانتْ مُحقةً عندما ملأتْ كوبينِ بعصيرِ الشبابِ وقد خَطَّ العمرُ تاريخَه ، تنازعنا شُربَ العصيرِ بعد أن تبادلنا الأدوارَ على الكوبين ، قالت إنَّ مذاقَ كأسِ عصيرِكَ أروع ، قلتُ لها لقد قلتِ الذي على لساني؛ إنَّ روعةَ الطعمِ في زجاجِك سرمديُّ المذاق ، وددتُ لو أنَّ لهذا الكوكبِ عمرًا طويلًا أو لا يتشظى إذا سقطَ من على هذه الطاولة، فجأةً وقعَ الكوبُ من بين يديَّ ويديْها ونحنُ نتسابقُ على الإمساكِ به، مِن حسنِ الحظِّ أنه لم ينكسر، قلتُ لها سَلِمَ عمرُك يا… ولم أكملْ لأنَّها تعرفُ أني أُحبُّها بالفعل ، صَببتُ مابقيَ من عصيرٍ عندي في كأسها، أمسكتْ به ترتشفُه وهي في قِمَّةِ سعادتِها، فجأةً وفي غَمرةِ سَكْرتِها من الفرحةِ وقعَ من يدِها على الأرضِ ولم يَنكسر، تنهدتُ وحمدتُ اللهَ على أن كوبين من الزجاجِ بقي لهما عمرٌ وهما جمادان، سألتُها هل بقيَ عصيرٌ في الخفاء ؟ ضحكتْ بحياءٍ وهزَّتْ رأسَها تقول لي نعم ، هممْتُ بأن أُحضرَه وأنا لا أعرفُ طريقه ، قالتْ انتظر ففي الحياةِ مُتَّسع ، لنا شفتان تجيدان الابتسامَ وهما غارقتانِ في مذاقِ العصيرِ وتأخذان لونَه ، نظرتُ في الساعةِ حولَ معصمي، وجدتُ التاريخَ يشيرُ إلى توقيتِ ميلادي، قلتُ لها إن اليومَ هو…. قالتْ لي لقد احتفلتُ بكَ على طريقتي ، نحنُ ماضيانِ وقد اقتسمْنا العمرَ منذُ البداية، ولنا عصيرٌ وأكوابٌ نتبادلها ، ستبقى بعضُ الأكوابِ في أماكنِها للذكرى ، أما هذانِ اللذانِ شربْناها ففيها رائحةُ شفتيْنا وشذَى نفَسَيْنا، ابتعدْنا عن منتصفِ الليل وخرجْنا إلى حيثُ النجومُ لنتأكدَ من أنَّ أحدًا مثلَنا يحتفلُ بالحُبِّ كما فعلنا ، كان الليلُ يُطبقُ بصَمْتِه على كلِّ شيء ، التزمْنا السكونَ وكلُّ واحدٍ يرى في عيني الآخرِ زجاجَ العُمر.