
ترامب.. غراب شؤم نذيراً بالخراب
اللواء الركن م. الدكتور
بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود
للأسف لشديد، يبدو لي أنه حتى الأطباء النفسانيين يعجزون اليوم عن إيجاد توصيف دقيق للحالة النفسانية لهذا الرجل الذي يجلس على سُدَّة الحكم في أكبر دولة اقتصادية عسكرية في العالم، ويتمتع بصلاحيات خطيرة على المستويين الداخلي والعالمي.
أما فيما يتعلق بفقره في السياسة والدبلوماسية وحتى الأخلاق الفاضلة، فأحسب أن أسبابه معلومة بالضرورة لكل متابع للشأن الأمريكي، فمن خلال نظرة عجلى لتاريخ الرؤساء الأمريكيين منذ أن تم إقرار الدستور الأمريكي في الرابع من مارس عام 1789م، وتم اختيار جورج واشنطن أول رئيس لأمريكا، حتى عهد ترامب هذا اليوم، نجد أن كل رئيس من هؤلاء الرؤساء الذين تعاقبوا على سُدَّة الحكم خلال (47) فترة رئاسية، الذين يبلغ عددهم (45) رئيساً؛ نجد أن كل واحد منهم جاء إلى البيت الأبيض متسلحاً بتجربة سياسية ثرَّة، فمنهم من كان نائباً للرئيس مثلاً، أو كان حاكماً لإحدى الولايات، أو قائداً عاماً للجيش، أو وزيراً أو حتى عضواً متمرساً بمجلس الشيوخ أو مجلس النواب، إلا ترامب هذا، نذير الشؤم والخراب، إذ كانت مهنته السابقة لتوليه منصب الرئاسة حتى في ولايته الأولى (2017 – 2021): الرئيس التنفيذي لمنظمة ترامب. أي ليس للرجل في السياسة ناقة ولا جمل كما يقولون. فلا غرو إذاً أن يكون هذا الرجل غريب الأطوار بدعاً من سائر من سبقوه على البيت الأبيض، الذي يبدو أنه سيحيله إلى بيت أسود.
ولهذا أيضاً مفهوم تخبطه في السياسة واتخاذ القرارات، كمن يجلس خلف مقود سيارة لأول مرة لكي يتعلم السياقة. فمن زيادة التعرفة الجمركية على الواردات التي تتراوح بين (10 – 25%) مما يؤثر سلباً على المستهلك الأمريكي بالدرجة الأولى، إلى تغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا، وتغيير اسم قمة بنالي في ولاية ألاسكا إلى جبل ماكنلي، إلى تلك التغييرات الدراماتيكية فيما يتعلق بقانون الهجرة والجنسية، إلى مطالبة المغرب باعتذار للجالية اليهودية، وتقديم تعويض مالي قدره مليون دولار أمريكي نظير استغلال المغرب لممتلكات اليهود حسب زعمه، إلى الطامة الكبرى بإعلان رغبته بإجلاء سكان غزّة، والطلب إلى مصر والأردن بتوطينهم لديهما، لتستولي أمريكا على قطاع غزة، ومن ثم تحيله إلى ريفييرا الشرق الأوسط كما يتوهمون؛ مع أن كثيراً من المستوطنين أنفسهم، وعلى رأسهم شارون، كبيرهم الذي علمهم الولوغ في دماء الفلسطينيين والرقص على جماجمهم وأشلائهم، أكدوا أن من يظن أنه يمكنه البقاء في (إسرائيل) إلى الأبد، لا يعدو أن يكون شخصاً حالماً بالمستحيل، معترفين أنهم مجرد محتلين مغتصبين للأرض، وليسوا أصحاب أرض حقيقيين كما يتوهم كثيرون؛ مما حدا بنتنياهو لوصف ترامب بأنه أعظم صديق لـ (إسرائيل) على الإطلاق في البيت الأبيض.
أقول مفهوم بالضرورة أن يكون ترامب حريصاً على دعم اليهود ومساعدتهم كما فعل في ولايته الأولى، عندما أعلن في السادس من ديسمبر عام 2017م، اعترافه رسمياً بالقدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني، ونقل السفارة الأمريكية إليها من تل أبيب في الرابع عشر من مايو عام 2018م، خلافاً للحياد الأمريكي الذي استمر سبعة عقود، وإن كان على استحياء.
يفعل ترامب هذا وغيره كثير من ممارسات لا تمت لرئيس مسؤول بصلة من قريب أو بعيد لأنه تاجر، جاء محمولاً إلى البيت الأبيض في ولايته الأولى، كما هو حاله اليوم، على عرش من مال اللوبي اليهودي الذي يحدد وجهة بوصلة السياسة الأمريكية فعلياً.. أقول، إن يفعل ترامب ما فعله في ولايته الأولى من كرم فيَّاض لم يخطر حتى على ذهن اليهود مفهوم، أما أن يكون صهيونياً أكثر من الصهيونيين أنفسهم، فيدفعه تخبطه وفقره السياسي وحاجته إلى اللباقة والكياسة، وحرصه على إشباع غرور اللوبي اليهودي، إلى التفكير في إجلاء سكان غزَّة كلهم عن وطنهم، إلى أوطان أخرى أيَّاً كانت، فهذا أمر لم يكن حتى في حسبان أكثر الناس جهلاً بالسياسة؛ علماً أنه استنفد حظَّه في الترشح للرئاسة. فكان حريَّاَ به أن يحاول جاهداً انتهاج سياسة معتدلة تغفر له ما مضى من كبوات مزعجة، أو قل على الأقل تجعل الناس يسامحونه إلى حدٍّ ما، ومن ثم يترك أثراً يدل على أنه ثمَّة رجل كان هنا ذات يوم، وترك هذا الأثر الطيب الذي يحفظه له التاريخ في سجله إلى الأبد، غير أنني أعود فأقول مستدركاً: أنَّى لفاقد الشيء أن يعطيه؟!.
في الحقيقة يبدو لي أن تفكير ترامب في إجلاء سكان غزَّة إلى وطن بديل، أو حتى أوطان بديلة، لكي تمتلك أمريكا قطاع غزَّة، ومن ثم تحوله إلى جنَّة في الأرض حسب زعمه، يرمي لتحقيق عدَّة أهداف، أوجز أهمها في:
شرعنة قطاع غزَّة حقاً خالصاً لأمريكا، ثم تتنازل عنه لاحقاً لدولة الكيان الصهيوني، أو قل تأخذه تلك الدولة عنوة أو من خلال مسرحية البيع والشراء بين تاجر العقار (ترامب) ودولة الكيان. وهكذا يحقق التاجر خطوة مهمة في ولادة (إسرائيل الكبرى).
خلق حالة من عدم الاستقرار وإشاعة الفوضى في الدول التي ينوي ترامب إجلاء أهل غزَّة إليها، لتفجير مزيد من المشاكل والحروب الأهلية، حتى يقتل العرب بعضهم بعضاً بيدهم، لا بيد عمرو.
الاستيلاء على أموال طائلة مما يتم جمعه من تبرعات بزعم تأسيس وطن بديل لأهل غزَّة.
إذا تم إجلاء سكان غزَّة بهدوء كما حدث فيما تعلَّق بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان ونقل السفارة الأمريكية إليها أثناء ولايته الأولى كما تقدم، فسوف تكون خطوة ترامب التالية في مكافأة اليهود، إجلاء سكان الضفة الغربية أيضاً التي يقولون إنها أرض (يهودا والسامرة) وتسليمها لـ (إسرائيل) بالمسرحية السمجة نفسها التي تحدث عند تسليمهم أرض غزَّة في حال نجح مخططه.
وهكذا يكون تاجر العقار قد كسب رضاء اللوبي اليهودي للمحافظة على تجارته وازدهارها، فاصطاد العصافير كلها بحجر واحد.
والأهم من هذا كله في رأي، هو إشغال الرأي العام، الذي توارى أساساً خلف الظل، عمَّا ارتكبته دولة الكيان في حق أهل غزَّة من فظائع وجرائم حرب تقشعر لها الأبدان، حتى مع قناعتنا أنه لا توجد أمم متحدة ولا مجلس أمن ولا أي منظمة عالمية فاعلة اليوم، بل للأسف الشديد، لا توجد حتى المرحومة الجامعة العربية.. أقول لا يوجد أي واحد من أولئك ممن ينوي مجرد نية الانتصار لأهل غزَّة المكلومة بسبب ما لحقهم من ظلم واعتداء وحشي من قبل العدو المغتصب.
أقول، ليت الأمر وقف عند ترامب وحده، بل ثمَّة تراجع مزعج حتى في فكر الرأي العام الأمريكي نفسه، فقد سمعنا ترامب يكذب أثناء حديثه عن ملابسات اعترافه بالقدس عاصمة لدولة الكيان ونقل السفارة الأمريكية إليها كما تقدم، غير أنه لم يجرؤ أي أمريكي سواءٌ على المستوى الرسمي أو على مستوى المواطن العادي، على الدعوة لمحاكمته أو حتى مجرد انتقاده؛ في حين لم يتردد مجلس النواب في إقالة الرئيس الأسبق بيل كلينتون في التاسع عشر من شهر ديسمبر عام 1998م، بتهمة الكذب على خلفية علاقته الشهيرة بمونيكا لوينسكي، قبل أن تتم تبرئته في الثاني عشر من شهر فبراير عام 1999م.. لم يعترض مجلس النواب يومئذٍ على فعلة رئيس الدولة الشنيعة مع المتدربة في البيت الأبيض المذكورة، بل اعترض على كذبه. لكن اليوم (ما عندك أحد) كما نقول هنا. وربَّما كان هذا التراجع في فكر الرأي العام الأمريكي، هو الرافعة الثانية مع اللوبي اليهودي الذي جاء بتاجر عقار إلى البيت الأبيض للمرة الثانية، مع أنه يُعَدُّ الرئيس الأمريكي الوحيد في تاريخ أمريكا الذي تعرض لمحاولة عزل لمرتين خلال ولايته الأولى.
وبعد:
ثمَّة رسائل مهمة، أوجهها هنا في ختام حديثي هذا لغراب الشؤم، نذير الخراب، أوجزها في:
قلت يا هذا إنك تشعر بشكل مختلف تماماً تجاه سكان غزَّة خلافاً لكثير من الناس، معتقداً في قرارة نفسك ضرورة وجوب حصولهم على قطعة أرض جديدة، جيدة وجميلة.. سؤالي هنا: أين كان شعورك هذا عندما كانت (إسرائيل) تدك بيوتهم على رؤوسهم بكل أنواع الأسلحة، (الحلال) منها والمحرَّم، مخلِّفة أكثر من (65) ألف شهيد، بينهم أكثر من (28) ألف طفل؟!.
أرجو أن أسمع إجابتك عن السؤال التالي الذي وجهته إليك الطفلة الفلسطينية مريا حنون من أهالي غزَّة: (إذا طلبت منك الخروج من أرضك، لتعيش في مصر أو الصين، هل ستوافق؟.. عن أي حرية تتكلمون)؟!.
إذا كانت فضيحة ووترغيت التي حدثت في السابع عشر من يونيو عام 1972م، في عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، هي أشهر فضيحة سياسية في تاريخ أمريكا، فأتمنى ألا تمضي قدماً في خطتك لإجلاء سكان غزَّة إلى وطن بديل، حتى لا يتم تسجيلها نقطة سوداء في تاريخك، إن كان ثمَّة تاريخ لك، كأشهر فضيحة أخلاقية في تاريخ أمريكا يتم ارتكابها في عهدك. حاول جاهداً أن يتذكرك الناس بغير ما يتذكرون به نيكسون.
أعرف أنك لن تسعى لتسجيل اسمك مع فرانكلين روزفلت كأفضل رئيس حكم أمريكا، غير أنني أتمنى أن تجتهد حتى لا تسجل اسمك مع جيمس بيوكانان كأسوأ رئيس حكم أمريكا.
أرجو أن تعيد قراءة هذه الحكمة العظيمة لمواطنك الدكتور مارتن لوثر كينج: (الظلم في أي مكان، هو تهديد للعدالة في كل مكان). ولهذا أُذَكِّرك أن خطتك لظلم أهل غزَّة بإجلائهم عن وطنهم، تُعَدُّ تهديداً للعدالة في أمريكا أيضاً.
وعليه أرجو أن تقلع عن غلوِّك هذا، حتى لا تسجل اسمك خامس رئيس يتم اغتياله مع أبراهام لينكولن، جيمس جارفيلد، ويليام ماكينلي وجون كيندي.
وعلى كل حال، ليس هذا تهديداً، فالذين يقع عليهم مثل هذا الظلم المرير، إن كانوا من مواطنيك أو غيرهم، لن يعدموا حيلة في الوصول إليك. بل أكثر من ذلك: هو توجس وخوف حقيقي عبَّرت عنه أنت نفسك بعظمة لسانك على رأي الإخوة في أرض الكنانة التي قلت إنك ترغب في إجلاء أهل غزَّة إليها، عند توقيعك تلك المذكرة التي تهدف لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، وتهديدك إياها بمنعها من تصدير نفطها، بصرف النظر عن اتفاقنا معك أو اختلافنا بهذا الشأن، إذ قلت أنت صراحة متوجساً، رداً على سؤال لإحدى الصحفيات: (إذا حاولت إيران قتلي، فسنقضي عليها).. إذاً أنت نفسك تتوقع انضمامك إلى قائمة إبراهام لينكولن وجون كيندي.
ودمتم بكل خير