الوطن.. ليس له ثمن
اللواء الركن م. الدكتور
بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود
ليس ثمَّة شك أن كل من يتأمل حال العالم اليوم، يُصاب بالدوار، ويغلي دمه في شرايينه، فيرتفع ضغطه، حتى لتكاد أوردته تنفجر، فيسيل دمه أنهاراً، من فظاعة ما يرى ويسمع عن تلك الفوضى العارمة، التي قال عنها مشعلوها كذباً وزوراً إنها (خلاَّقة)، إذ تجرَّدت من كل القيم والأخلاق، ووضعت العالم كله على صفيح ساخن. فمن مؤامرات تحاك بليل، إلى عمالة وضيعة رخيصة دنيئة نذلة، تشعل فتيل الفتنة؛ فينشب قتال هنا، وتستعر نار حروب أهلية هناك، يتم فيها تجاوز كل الخطوط الحمراء، فيستشري القتل على الهوية، وهتك الأعراض، وسبي الحرائر، ونهب الأموال والممتلكات، وتدمير البنية التحتية، فيعم الخراب والدمار، وتتعطل عجلة التنمية، ويصاب الاقتصاد بشلل تام؛ ويصبح هم الناس كله: الأمن على أرواحهم وأعراضهم وعقيدتهم، ثم كسرة خبز يسكتون بها جوع صغارهم، ورشفة ماء يرون بها ظمأهم وحبة دواء يداوون بها مرضهم.
لكن للأسف الشديد، يستحيل حتى تحقيق تلك الأمنيات على تواضعها في أكثر من بلاد، مما يضطر أهل هذه البلاد أو تلك إلى ركوب الصعب؛ فيأخذون ما خفَّ حمله من متاع ثم يسيحون في بلاد الله الواسعة نازحين إلى هذه الناحية من بلادهم أو تلك، فيما يضطر بعضهم حتى للهجرة بعيداً عن مسقط رأسه ومراتع صباه ومستودع ذكرياته، مودِّعاً ثرى أرضه وسماءها وهواءها وجداول مياهها بدموع من دم.
وللأسف الشديد أيضاً، تنقل الأخبار كل يوم مأساة شعب هنا أو هناك، وهم يسيرون حفاة وسط الأحراش والطبيعة القاسية، وربَّما الحيوانات المفترسة، هائمين على وجوههم، لا يدرون إلى أين ينتهي بهم المسير، ومتى يعقل المتقاتلون في بلادهم، فتنتهي مأساتهم ليستعيدوا حياتهم من وسط الركام من جديد.
هذا هو حال البشر المساكين المقهورين، الذين نراهم على الفضائيات صباح مساء للأسف الشديد. أما حال تلك الأوطان المغلوبة على أمرها، فيبدو أنه في حياة كثير منها هذه الأيام (بروتس) خاص به. وكم يود هذا الوطن الجريح أو ذاك، الذي يئن مما أصابه من غدر وخيانة من القريب قبل الغريب، أن يقول بأسىً من مرارة ما يقاسيه: حتى أنت يا بروتس؟! فليمت قيصر إذاً؛ أي فليذهب الوطن إذاً إلى غير رجعة، ما دمتم أنتم أهله تخونونه، فضلاً عن أن تمنعوا الغريب من خيانته؛ كناية عن الخذلان، وخيبة الأمل، ومرارة الخيانة التي تشعر بها تلك الأوطان، وجسَّدتها أشهر طعنة خيانة في التاريخ الإنساني، كما جاء في مسرحية شكسبير الشهيرة تلك.
وإني على يقين تام، وأحسب أن كثيرين، إن لم يكن جميعكم، يتفقون معي، أنه ما ضاع وطن، وما نشب فيه قتال وتشرد أهله وانتهكت أعراضهم وسلبت حقوقهم، إلا بسبب بعض بنيه الجهلة المجردين من كل خلق قويم، وليس لهم همٌّ في الدنيا غير جمع الدراهم والدنانير، والانسياق للأهواء وإتباع الشهوات والولوغ في الملذات، و لو على جماجم الأبرياء والمساكين.
فقطعاً إن أمثال أولئك الجهلة الأغبياء، لا يدركون قيمة الأوطان، ولهذا لم يترددوا لحظة في بيعها للغزاة بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودات، وحري بأولئك ألا تعود إليهم الفكرة، حتى إن غابت عنهم سكرة الجهل والغباء تلك.
أجل، أيها القارئ الكريم، الوطن ليس له ثمنٌ وإن غلا؛ فمهما أُعطِي الإنسان المؤمن العاقل الوفي المخلص لبلاده ولشعبها ولترابها ولسمائها من ثمن، لن يفكر، و لو للحظة، في مقايضته حتى بحبة رمل واحدة من ثرى بلاده؛ إذ كيف يبيع إنسان المكان الذي وُلِدَ فيه أجداده وآباؤه، وينتسبون إليه، وينتمون أباً عن جد، وخلفاً عن سلف، وبه يعرفون، ويرتبطون بأرضه ارتباط الولاء والوفاء والإخلاص له، وتتعلق قلوبهم به، وتهفو أفئدتهم إليه كلما اضطروا لمغادرته مكرهين لأي سبب، حتى إن كان لأيام معدودات. ولهذا يستعدون للتضحية من أجله بالروح والدم على مدى قرون عديدة وأجيال متعاقبة.
فكيف يجرؤ امرؤ عاقل على بيع المكان الذي اختلط نسيمه وعبق ثراه بدمه، ناهيك عن أن يكون ذاك النسيم العليل هو صبا نجد؟! وأكل من ثماره، وروى ظمأه من مياهه وتعلَّم في مدارسه وتخرج في جامعاته، ونما لحم أكتافه من خيراته، واحتمى بأمنه.. أجل، كيف يجرؤ إنسان على بيع المكان الذي أكسبه هويته التي بها يُعْرَف؟!.
قطعاً أمثال أولئك لا يدركون قيمة الأوطان التي حضَّ القرآن الكريم على رعايتها والعناية بها والمحافظة عليها، إذ جعل الله سبحانه وتعالى الحفاظ على الوطن قرين حب النفس والخوف عليها من الهلاك. ولهذا قرن الحق عزَّ و جلَّ بين مشقة قتل النفس والخروج من الوطن امتحاناً للمنافقين، كما جاء في قوله تعالى، في الآية (66) من سورة النساء: (و لو أنَّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم)، ففي الآية الكريمة دليل على صعوبة الخروج من الديار، إذ قرنه الله تعالى بقتل النفس لأهمية الديار ومكانتها عند أهلها.
وها هو أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، يدعو ربَّه سبحانه وتعالى أن يجعل بلده آمناً ويرزق أهله من الثمرات، كما جاء في الآية (126) من سورة البقرة: (وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير).
وفي حب الديار أيضاً يقول من أرسله ربُّه رحمة للعالمين، الصادق الأمين من ذرية إبراهيم، عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهو يودِّع مكة المكرمة، يوم أخرجه قومه منها: (ما أطيبك من بلد، وما أحبك إليَّ، و لو لا أن قومي أخرجوني منك، ما سكنت غيرك). وأيضاً يقول الذي لا ينطق عن الهوى في حبِّ الديار: (اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حبَّبت إلينا مكة، وبارك في مدها وصاعها).
وها هو أخي العزيز دايم السيف، الشاعر المبدع، يتغنى بحب الوطن في قصيدة رائعة، كم تمنيت أن يتسع المجال لأوردها هنا كلها، يقول فيها:
عفَّ الزمان وكل شيء معه عفَّ
إلا الوطن والله ما عنه عفيت
*
وشلون ما أحبه وهو ناهي الوصف؟!
لو قلت ما مثله فأنا ما تماديت
يفرق على الأوطان بالراس والأنف
هو موطن المبعوث هو موطن البيت
بارفع له الراية وباقرع له الدف
والسيف لعيونه من الغمد سليت
وهذا هو أخي العزيز البدر المنير، الشاعر المرهف، الذي لن يغيب عن قلوبنا حتى إن رحل مهندس الكلمة، يؤكد أن داره أغلى دار في الدنيا، وإن كانت ثرى، في رائعته التي تغنى بها أخي العزيز فنان العرب:
فوق هام السحب لو كنتي ثرى
فوق عالي الشهب يا أغلى ثرى
ويوافقهما أخي العزيز شبيه الريح، الشاعر المجيد، الذي لا يرى داراً في الدنيا كلها تشبه دارنا:
ومن مثل هذه الأرض في الأرض كلها؟
ورايتها التوحيد والسيف والذكر
ومن مثل هذه الأرض طهراً ورفعة؟
لها خدمة البيتين لا ينتهي الفخر
ومن مثلها في الأرض مملكة الذرى؟
هي العون للمحتاج والعطف والبر
ليس هذا فحسب، بل تغنى الشعراء من قديم بحب الأوطان وتفاخروا بها واعتزوا بأهلها؛ فها هو زهير بن أبي سلمى ينشد منذ (14) قرناً:
وللأوطان في دم كل حرٍّ
يدٌ سلفت و دَيْنٌ مستحق
وها هو أبو تمام الذي يقرر أنه لا يوجد في الدنيا أحد أحق بحنينه من داره:
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
واسمعوا معي لابن الرومي وهو يؤكد أنه لن يبيع داره مهما قدموا له من عروض سخية وإغراءات، فلن يسمح أن يتملكه غيره مهما كان:
ولي وطنٌ آليت ألاَّ أبيعه
وألاَّ أرى غيري له الدهر مالكاً
بل من فرط حبه لوطنه، يراه بمثابة الأم، ومن يعقُّه كأنما عقَّ أُمَّه:
موطنُ الإنسان أمٌ فإذا
عقَّه الإنسان يوماً عق أُمَّه
وأختم هنا بما قاله أحمد شوقي، أمير الشعراء، الذي بالغ في حب وطنه، مؤكداً أنه لن ينساه حتى إن كان في جنَّة الخلد. بالطبع غاية ما يتمناه كل مسلم في هذه الدنيا، هو أن يحظى برضاء ربِّه فيدخله الجنَّة، إلاَّ أن أمير الشعراء يبالغ هنا مبالغة لم يسبقه إليها أحدٌ من فرط حبِّه لوطنه:
وطني، لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وعليه: أتمنى على الجميع في يومنا الوطني المشرق السعيد هذا، أن نعاهد ربنا عزَّ و جلَّ، ثم نعاهد قيادتنا الرشيدة، ونعاهد أنفسنا، على أن نحمل وطننا العزيز الغالي هذا الذي ليس مثله في الدنيا وطن، دوماً في حدقات عيوننا؛ فنكون عوناً له للنهوض والتنمية، وأن يتصدر العالم في كل المجالات.. وليس ذلك ببعيد على إرادة السعوديين الثابتة الراسخة ثبات طويق، كما يؤكد ولي عهدنا القوي بالله الأمين دوماً، أخي العزيز صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء.
فلنتوجه في يومنا السعيد هذا بالتهنئة القلبية الصادقة لقيادتنا الرشيدة، مؤكدين لولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود حبنا له، وتلك القصور العامرة التي شيدناها له في قلوبنا، مرددين مع أخي العزيز شبيه الريح:
ألا أيها المحبوب طبعاً وشيمة
ففي قلب هذا الشعب يُعلى لك القصر
فكل عام الجميع بخير، ووطننا في أمن وأمان واطمئنان ورخاء واستقرار وسلام.