المال والاقتصاد معقل الحرب الباردة الثانية بين أمريكا والصين .. على وشك الحدوث
في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق وتكديس كل طرف كميات هائلة من الأسلحة النووية تكفي لتدمير الحياة على كوكب الأرض بأكمله عدة مرات، ظهرت مفاهيم “الدمار المتبادل المؤكد” و”الدمار المؤكد” و”توازن الرعب”. وتصور البعض في الغرب مع خروجه من الحرب الباردة منتصرا وتفكك الاتحاد السوفييتي ومعه الكتلة الشرقية وحلف وارسو أن هذه المفاهيم ستختفي ولن يكون لها محل من الإعراب في عصر القطب الأوحد.
لكن نيال فيرجسون المؤرخ الأسكتلندي يقول في تحليل نشرته وكالة “بلومبيرج” للأنباء “إن مفهوم الدمار المتبادل المؤكد أثبت أنه معمر، وما زال صالحا لوصف توازن القوة في عالم العقد الثالث من القرن الـ21 خاصة في الصراع الدائر حاليا بين الولايات المتحدة والصين”.
واليوم وفي المراحل الأولى من الحرب الباردة الثانية بين بكين وواشنطن يمكن استعادة كل مفاهيم الحرب الباردة الأولى من “الدمار المؤكد” و”الدمار المتبادل المؤكد” و”توازن الرعب”. فالصراع بين الدولتين له بعده النووي أيضا في ظل امتلاك الدولتين ترسانة نووية كبيرة. لكن لا يبدو أن كثيرين قلقون من هذا البعد في التنافس الصيني – الأمريكي. وبدلا من ذلك يتجه أغلب الاهتمام والقلق إلى الدمار المالي والاقتصادي الذي يقيد القوتين العظميين حاليا، ويميز بوضوح الحرب الباردة الثانية عن الحرب الباردة الأولى.
بالفعل ظهرت بوادر باهتة لانفراجة في الصراع الأمريكي – الصيني. فبحسب كورت كامبل رئيس إدارة منطقة المحيطين الهندي والهادئ في مجلس الأمن القومي الأمريكي تسعى إدارة الرئيس جو بايدن إلى إيجاد “تفاعل حذر ومثمر واستراتيجي مع الصين.. في صورة مجموعة من التفاعلات التي يمكن التنبؤ بنتائجها وأكثر حكمة في عدد كبير من المجالات”.
وخلال زيارتها الأخيرة للصين أكدت جينا رايموندو وزيرة التجارة الأمريكية التزاما بتشكيل “مجموعات عمل” جديدة لمناقشة الخلافات التجارية بين البلدين وأخرى لمناقشة القيود المفروضة على التصدير.
في الوقت نفسه رفضت رايموندو طلبا صينيا لتخفيض الرسوم الأمريكية على السلع الصينية. كما أن قواعد وزارة التجارة الأمريكية الموضوعة في أكتوبر 2022 لمنع حصول الصين على أشباه الموصلات المتقدمة، والمعدات التي تصنعها من الولايات المتحدة، لم تخضع للنقاش.
وفي أوائل أغسطس الماضي أعلن البيت الأبيض قيودا جديدة على استثمارات صناديق الاستثمار وشركات الاستثمار الأمريكية في مشاريع الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وأشباه الموصلات الصينية.
ويقول فيرجسون المحاضر في جامعة هارفارد الأمريكية “بسبب هذه الإجراءات وتوقع مزيد منها، يحدث الانفصال الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة بسرعة”. كما تتراجع حصة الصين من الواردات الأمريكية بسرعة منذ 2016.
وفي أغسطس باع المستثمرون الأجانب أسهما صينية بقيمة 12 مليار دولار، وهو أكبر خروج لهم منذ بدء التداول الدولي في بورصتي شنغهاي وشينشن الصينيتين أواخر 2014. كما يشهد الاقتصاد الصيني مشكلات عديدة أبرزها تدهور القطاع العقاري وتنامي الدين الحكومي.
في المقابل فإن مشكلات الاقتصاد الأمريكي مختلفة بصورة ما. فهذا الاقتصاد يحقق أداء جيدا، مع الوصول إلى درجة التوظيف الكامل واستمرار الإنفاق الاستهلاكي وتراجع التضخم بعد وصوله إلى مستوى قياسي في 2020. هذا المظهر الصحي للاقتصاد الأمريكي يخفي ضعفا هيكليا على الجانب المالي. فالعجز المالي لدى الولايات لمتحدة يتزايد بصورة مطردة. وفي حين كان حجم الدين الأمريكي مع بداية حكم الرئيس السابق دونالد ترمب 19.9 تريليون دولار، فإنه وصل الآن إلى 32.3 تريليون دولار.
وفي ظل هذه الظروف يرى فيرجسون أن من الصعب تخيل كيف يمكن لأي مواجهة جيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة أن تكون مجدية من الناحية المالية بعيدا عن الصعوبات العسكرية والبحرية التي يمكن مواجهتها.
لكن ماذا سيحدث إذا هاجمت الصين تايوان؟ يقول فيرجسون المؤرخ الأسكتلندي “إن الولايات المتحدة وحلفاءها بما في ذلك جميع أعضاء مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى على الأقل ستتخذ قبل هذا الهجوم أو فور وقوعه إجراءات اقتصادية صارمة ضد الصين”. ويقول شارلي فيست وأجاثا كراتس من مركز أبحاث المجلس الأطلسي “في السيناريو الأسوأ ستتعرض تدفقات تجارية ومالية للصين بقيمة ثلاثة تريليونات دولار لخطر الاضطراب الفوري، بعيدا عن الأصول المالية لخارجية للصين التي ستكون عرضة للتجميد”.
وفي حال أي حرب ستلجأ الولايات المتحدة إلى محاصرة الصين بهدف منع وصول أي سلع ضرورية بما في ذلك النفط والغذاء إليها عبر مضيق ملقا وهو نقطة مرور بحري رئيسة بين شبه جزيرة ملايو وجزيرة سومطرة الإندونيسية. ويشكك بعض الخبراء في جدوى مثل هذا الحصار بسبب ميل أغلب الدول المحايدة إلى الالتفاف عليه، إلى جانب تمتع الصين باكتفاء ذاتي في عديد من المجالات. ومع ذلك فإن أي حصار على هذا المستوى سيؤدي إلى إضطراب شديد في سلاسل الإمداد العالمية وارتفاع في الأسعار كالذي حدث مع تدخل روسيا عسكريا في أوكرانيا في العام الماضي، لكن على نطاق أوسع.
وأخيرا يمكن القول، من الصعب توقع التداعيات الاقتصادية لمثل هذا السيناريو، لكن كلمة “كارثية” ستطرح نفسها بقوة كوصف دقيق لهذه التداعيات. فتايوان تقود العالم في صناعة أكثر أشباه الموصلات تطورا وتعقيدا. وأي اضطراب في إمدادات هذه المنتجات من تايوان في حال نشوب حرب صينية – أمريكية سيؤدي إلى ارتفاعات جنونية في أسعار أشباه الموصلات التي باتت حيوية لاقتصاد العالم. كما أن الصين ما زالت مركزا رئيسا لإنتاج عديد من الشركات الصناعية الأمريكية الرئيسة، حيث تمثل الصين أكثر من 80 في المائة من واردات الولايات المتحدة من الهواتف الذكية على سبيل المثال.
معنى ذلك أن أي أزمة كبرى بين واشنطن وبكين بسبب تايوان ستكون لها تداعيات مالية وخيمة حتى قبل أن تنطلق الرصاصة الأولى فيها. لكن افتراض أن هذا الخطر كاف لمنع تصعيد الحرب الباردة الثانية وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة ينطوي على الخطأ نفسه الذي وقع فيه المفكرون في الستينيات، الذين باركوا دون وعي سباق التسلح النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لتعزيز مبدأ “الدمار المتبادل المؤكد” كوسيلة لتجنب نشوب الحرب العالمية الثالثة. ففي هذه المرة يمكن أن تحدث الكارثة الاقتصادية بسبب الحرب حتى قبل أن تبدأ تلك الحرب.