أقلام عربية

الحب كيف وأين ومتى ؟؟

 

كنت أتمنى أن أرسم الحب هنا لا الكتابة عنه، لكن قواعد المهنة تلزمني بمسك القلم وترك ريشة الرسم، ولست في صدد البحث عن استثناء بقدر رغبتي في أن أملك زمام الكلمة وأحلق في فضائها لكتابة مرثية الحب في هذه الحياة الرقمية الجديدة، التي تدفعنا للالتصاق بالاجهزة واعتزال الحياة ومباهجها.
ومن هذا المنطلق، يجدر القول في شيء من فلسفة هذا المسمى بالحب، أنه عبارة عن حديقة جميلة علينا ان نمنحها كل عنايتنا حتى لا تذبل زهورها، وتطير عصافيرها، وتجف ينابيعها. فحديقة الحب بحاجة الى رعاية وعناية دائمتين، ابتداء من لحظة زرع بذورها مرورا بخروج سيقانها من رحم الارض الى شمس نموها، ورفرفة اوراقها مع النسمات، وحتى تفتح زهورها ونضوج ثمارها. رعاية وعناية نستعيدهما مرارا حتى بعد جني المحصول لكي لا تغزوها الحشرات الضارة وتتآكل أوراقها الناعمة، وتذبل زهورها الخلابة، لأن المحبين بمثابة الشمس والهواء، وكذا الماء والترب، لذلك البستان الرائع الذي يزينه في الصباح الباكر قوس قزح وفي الليل تحرسه النجوم.

وأما عن تقسيم الأدوار والعمل في هذا البستان فيضطلع الرجل بالأعمال التي تتطلب جهدا كبيرا وتحتاج لقوة عضلية، حيث تتابع المرأة انجاز الأعمال التي تحتاج الى ذوق وإلى أنامل ناعمة. عندما يقع الإنسان في الحب، تتقدم الاستمرارية والوفاء الاعتبارات الاخرى ، فهما ضمانة تسلل خريف العمر بنعومة دون ان يشعر بوطأته المحبان، اللذان ينصتان لقلبين ارتعشا بلحظات الحب زمنا، ولهمس الحبيب لمحبوبته بسؤال سبقه اليه جميل بثينة: «فكيف كبرت ولم تكبري»؟! ومثلما يحضر بثينة العاشقين يحضرني هنا بيتان ارتجلتهما بثينة حين تنامى اليها خبر وفاة جميل، حملتها حرقة فؤادها إذ تقول:

وليس سوى جميل بساعة من الدهر لا كانت ولا حان حينها سواء علينا جميل بن معمر إذا مت، بأساء الحياة ولينها

وفي العوده لفلسفة هذا المسمى بالحب، يجدر القول بأن المكابدات والمنغصات لا تقتل الشعور الحقيقي بالمودة والمحبة، بل تقويه، وتذهب بالمشاعر الزائفة والعابرة التي لا تصمد لأنها بلا أساس راسخ. ولا أريد أن أضيف هنا بأن الحب الطاهر يدوم حتى الموت، لأن الابطال يموتون في قصص الحب أكثر من مرة، مثلما يولدون في طيات القصة عينها غير مرة. ولادة تختلف عن تلك جاءت بهم الى هذه الحياة الصعبة. لكن حال العرب، الان، مع الحب، بعد جميل بثينة، صار مثل حالهم مع السياسة والتجارة، يشترون بأموالهم كل شيء. فحتى المشاعر والقصائد واللوحات الفنية لم تسلم من المتاجرة بها. لقد أقاموا، الحد على الحب في هذا الزمان الإلكتروني، من دون أن يدروا.

فمنذ عصر الحمام الزاجل إلى عصر الإنترنت، الذي لم تعد معه الرسائل تحتاج لكل تلك الشهور، لكي تصل بسلامة، دون أن تضيع، حتى لو نشبت المعارك والحروب، فالحياة الرقمية الجديدة غيرت حتى من قيم المراسلات الأدبية على طريقة مي زيادة وجبران خليل جبران. وبالمناسبة، ظل جبران ومي يتواصلان بالرسائل الأدبية، وهما بعيدان، كل منهما بعيد عن الآخر ولا يلتقيه.

ولا أود اجترار الحديث عن موضة المراسلات، من خلال الهاتف المحمول، وما يحمل في طياته من رسائل معلبة وجاهزة تنتقل فيها الرسالة الواحدة في الدقيقة الى آلاف الأشخاص، علما بأن غالبية تلك الرسائل، إن لم تكن جميعه تحمل معاني أو قيما أدبية، أو حتى بلاغية تستدعى الالتفات اليها.

وبعيدا عن موضة حب الرسائل السريعة، الشبيهة بالـ«take away» نمضي بالحديث عن منغصات الحياة، التي يجب مواجهتها بكبرياء، وعدم البكاء على أطلالها، مع الاحتفاظ بالذكريات الجميلة، فالقلب الذي تعلم من الحياة فنون الحب عليه أن لا يتعلم معه الانكسار، أو حتى التألم على انحناء وهزائم ،وعلى صوت كبريائه أن يظل يهتف من أعماقه مذكرا إياه بأنه جمرة ملتهبة لا تبتعد عن ذاتها إطلاقا.

إذا تشابه الناس في الحب فعلم اليقين أنهم لا يحبون، مهما قيل بأن الناس هم الناس والدنيا هي الدنيا والحب هو الحب. فلكل منا في مشوار في هذه الحياة، «سيناريو» مختلف عن الآخر، بمعنى آخر أكثر وضوحا، كل إنسان له قصه لا يمكن أن تتكرر، حتى وان تشابهت الظروف والحوادث ووقعت في الزمان نفسه والمكان نفسه. وعليه فلا حاجة أن نبتعد عن ذواتنا أو أن نقتل أشياء راسخة في أعماق شخصياتنا التي قد تغتال دون أن ندري تحت طائلة الدعوة الى المحافظة على الحب، عبر محاكاة وتقليد الآخرين، أو حتى من خلال استحضار خبرات غيرنا المتراكمة.

وقطعا لم يبق للتذكير، في خاتمة المطاف، سوى أن تكون وتكوني ذاتك وضمير المتكلم الذي يغوص في الأعماق لا جزءا من لعبه ما، أو حتى مجرد دور اجتماعي يتطلع الى ممارسته منذ زمن في مسرحية فاشلة بلا جمهور. وللحديث بقيه.

د / عبدالعزيز الرميلي النعمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى